د. وائل شديد
استراتيجي وباحث
لقد أضحى العمل الجماهيري والنقابي ومؤسسات المجتمع المدني من متطلبات العصر الحديث. ذلك أن الدولة بتركيبتها وهيكليتها لا تستطيع أن تغطي جميع المجالات فكان لا بد من وجود مؤسسات المجتمع المدني والنقابات لسد هذه الثغرة. ونظرا للتركيبة السياسية للدولة الحديثة فلا بد أيضا من وجود عمل سياسي يحاول أن يقوِم أو يعترض على ما يراه غير مناسب لمصلحة الجماهير.
ولكن السؤال المطروح: هل يكون هذا العمل على شكل حزب سياسي أم تيار شعبي وما الفرق بينهما؟
عند تسليط الضوء على المفهومين نلاحظ: أن هناك خلطا بينهما ليس بين الجمهور فحسب بل وبين الممارسين أيضا. إذ يبدو أحيانا أن أصحاب الحزب السياسي يتبنون استراتيجية التيارات الشعبية مما يؤثر سلبا على مقاصدهم السياسية ويجعل أهدافهم تتعارض مع وسائلهم، والعكس صحيح إذ تتعارض وسائل أصحاب التيار الشعبي مع أهدافهم وبالتالي إعاقة تحقيق المراد من سبب وجود التيار الشعبي أو الحزب السياسي.
فالحزب السياسي هو مجموعة من الناس تؤمن بفكر ما، أو تتبنى أهدافا سياسية أو أيديولوجية أو دينية أو اقتصادية أو فكر مركب من تلك الأهداف السابقة، وينظمون أنفسهم بإطار تنظيمي بهدف الوصول إلى السلطة وتنفيذ برنامجهم السياسي. بينما التيار الشعبي هو شكل من أشكال الالتقاء أو التجمع الجماهيري حول مصالح أو مطالب ثقافية أو اجتماعية أو وطنية أو سياسية من أجل الضغط على من هم في السلطة لتحقيق مطالبهم ولا يسعون للوصول للسلطة. ولذا يحاول التيار الشعبي إشراك أوسع قاعدة من الجمهور بهدف تحقيق مطالبه وتنتهي مهمة التيار الشعبي بتحقيق مرادهم المنشود. وهذا يقتضي توحيد الجماهير لتلبية مطالبها في مواجهة السياسات غير العادلة أو غير المناسبة للسلطة.
ومن حيث المقصد، فإن الحزب يهدف لتشكيل قاعدة حزبية مؤمنة بالفكرة، ويعمل على نشر فكره بين المواطنين ليشكل قاعدة جماهيرية واسعة تؤهله لدخول المعترك السياسي للوصول للحكم، ولذا فإن حياة الحزب مستمرة حتى بعد الوصول للحكم، وقد يشكل ائتلافا حاكما مع أحزاب أخرى أو يكون في المعارضة. في حين أن هدف التيار الشعبي هو تشكيل قاعدة شعبية تؤمن بالمطالب التي ينادي بها وينشر الوعي بين الجماهير، معتمدا على عدالة المطالب التي يتبناها من أجل الضغط على السلطة لتلبيتها دون الوصل إلى الحكم، ولذا فإن التيار الشعبي يتوقف عند تحقيق المطالب أو انتهاء أسباب تكوينه في الأصل، ويمكن أن يستمر طالما المطالب لم تتحقق أو دوافع تأسيسه ما زالت قائمة. ويتم تحديد أهداف التيار الشعبي المستقلة من خلال جمهوره نفسه ومنها على سبيل المثال؛ بناء قاعدة مجتمعية واسعة تؤمن بالتغيير الذي تطالب به وتسعى له، ونشر الوعي القانوني والحقوقي المتعلق بالقضية المنشودة، والعمل على تشكيل ثقافة خاصة بها قادرة على مواجهة الثقافة المناقضة لها، إضافة إلى نشر الوعي بمصالحها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للعمل على تحسينها.
أما من حيث الهيكلية، فإن الحزب السياسي يعتمد بالغالب على هيكلٍ هرميّ وله سلطة تنظيمية، وتراعي فيه التراتب الهيكلي، والتفويض في الحزب السياسي محدود إلا من خلال الأطر الحزبية. ويكون التفويض للحزبي الملتزم وليس لصاحب الكفاءة. أما التيار الشعبي فيعتمد على هيكل بسيط غير معقد قائم في الأغلب على التوافق مع بعض الضوابط والسياسات لتنظيم الأمور. والتيار الشعبي فيه تفويض أكثر بكثير من الحزب. ويعتمد على العمل بروح الفريق وتجميع الكفاءات.
وفي حين يكون الانتماء للحزب، فإن التيار الشعبي لا ينتمي لحزب محدد ولا ينفذ أجندة أي من الأحزاب ولا يخضع لقرارات أي منها، وغير مقيد بعقلية حزبية، بل منفتح على جميع الأطياف من جميع قطاعات الشعب المختلفة التي تتشارك معه في المطالب.
ومن الصعب احتواء التيارات الشعبية المستقلة من خلال الأحزاب التي قد تحاول ذلك، حيث سترفض الأغلبية في التيار الشعبي الاحتواء وتصر على رفضه. ومن المحتمل أن يتناقض الحزب مع التيار الشعبي إذا كانت مطالب التيار الشعبي تعارض فكر أو سياسة الحزب. كما قد يقوم حزب ما بتشكيل منظمه جماهيرية تشابه التيار الشعبي في الظاهر لكسب واستقطاب الناس الذين لا يريدون الانتماء الحزبي، ولكن هذه المنظمة الشعبية تبقى محكومة بتوجهات الحزب ولا تملك الاستقلالية، ويفرض الحزب عليها أجندته وسرعان ما تكتشف الجماهير تبعية هذه المنظمة الشعبية للحزب بعد مدة وجيزة من الزمن.
والتيار الشعبي ليس معزولا في حركته عن المكونات السياسية، فيستطيع التيار الشعبي أن ينشئ علاقة تنسيق وتفاهم مع أي حزب يتقاطع معه في المصلحة المشتركة ولكن دون الخضوع لبرنامجه من خلال التعاون والتنسيق. وعلى التيار الشعبي حينها أن يحافظ على هويته فلا يبدو وكأنه تابع للحزب الذي تقاطعت مصلحته معه.
وحتى تنجح التيارات الشعبية في تحقيق رسالتها فلا بد من الانتباه لمجموعة من عوامل النجاح لعل من أهمها: نشر الرؤية والرسالة للجماهير وفهمها لإيجاد قاعدة واسعة واعية لمهمتها، وعدم التفرد في اتخاذ القرارات بل العمل بروح الفريق. والمطلوب توسيع المشاركة في حل المشاكل التي تواجه التيار الشعبي بشكل عام، مما يتطلب نشر مفهوم التشارك مع الآخرين، وعدم البدء من الصفر بل التعاون مع المؤسسات القائمة التي تتقاطع مع فكرة التيار. ومن المتطلبات المهمة المرونة في التعامل دون التنازل عن المبادئ، والمقصود هنا المرونة الإدارية إضافة إلى المساواة والعدل بين الجميع. ويتوجب على قيادة التيار الشعبي توضيح المخرجات والنتائج المطلوبة والإنجازات المراد تحقيقيها للجميع والمحاسبة على ذلك والتشجيع، مع إعطاء الفروع والتنسيقيات الفرعية التابعة للتيار الشعبي صلاحيات ضمن مقاييس متفق عليها لتشجيع الإنجاز وتوفير الدافع للعمل. وهذ يقتضي منح التفويض من أجل زيادة الكفاءة من حيث تقليل الجهد والوقت والكلفة ومن أجل زيادة الشعور بالولاء والانتماء لفكرة التيار الشعبي. ونظرا لأن التيار الشعبي يتعامل مع مختلف التركيبات الاجتماعية والديمغرافية، فلابد هنا من التوازن بين نظام الرعاية والوجاهة والامتيازات وبين نظام الجدارة والكفاءة والعطاء.
ونظرا لقلة التكلفة السياسية للتيار الشعبي، ونظرا للتركيبة السياسية في العديد من الدول كالممالك والإمارات، فإنه من المتوقع أن يكون المستقبل لتبني مفهوم التيارات الشعبية في السنوات القادمة. كما ستجد العديد من الجماعات والأحزاب في فكرة التيار الشعبي مخرجا لها من مأزقها الفكري خصوصا عندما تكتشف أنها كانت في جوهرها تيارا شعبيا وتتبنى في واقعها وسائل التيارات الشعبية بينما كانت تظن أنها حزبا سياسيا.